تحديات عالمية وفرص تاريخية- رؤى استراتيجية لمستقبل المنطقة العربية

المؤلف: د. طارق الزمر11.05.2025
تحديات عالمية وفرص تاريخية- رؤى استراتيجية لمستقبل المنطقة العربية

إن المتفحص الدقيق للأحداث العالمية المأساوية التي توالت فصولها على مدار العامين الماضيين، يدرك تمام الإدراك أنها تتصاعد بوتيرة تنذر بالخطر، حتى ليكاد المرء يرى نذرها تتلبد في سماء العامين القادمين، 2024 و 2025، مهددة الجميع بشررها المتطاير وحممها الملتهبة. هذا الأمر يجعلنا نستشعر بقرب وقوع كوارث عالمية جديدة، وذلك في ظل نظام دولي يعصف به الاضطراب، وتغلب عليه عناصر السيولة وعدم الاستقرار، مما يدفعنا لعدم التفاؤل بمستقبل آمن أو وجهات منقذة، وهو ما يستلزم بالضرورة نشأة أوضاع إقليمية جديدة ترسخ دعائم العدل وتصون حرية الشعوب.

هدم المعبد

إن النظرة الفاحصة لغالبية القادة الذين يمسكون بزمام القرارات المصيرية ويديرون مراكز القوة الحيوية، تكشف عن افتقارهم الملحوظ للحكمة والتبصر، وبالأخص الإنسانية الضرورية! وهو ما يؤهلهم للأسف لسيناريو تدمير كل شيء على رؤوس الجميع، لا سيما إذا ما نظرنا إلى خطوات ترامب المتسارعة نحو البيت الأبيض، حيث نجد أنفسنا أمام نظام عالمي آخذ في التلاشي والاضمحلال، ونظام بديل لم يتبلور بعد بشكل كامل أو يكاد يكون متباعدًا، مما يجعل العالم على موعد مع حقب طويلة من الفوضى والاضطرابات التي ستطال بدورها النظم الإقليمية الفرعية، وعلى رأسها منطقتنا العربية.

إن الإستراتيجية الأميركية الكونية، التي لطالما عودتنا الوقوف بالعالم على شفير الهاوية، والتي تعتمد بشكل دائم على بث الفوضى في شتى بقاع الأرض من أجل السيطرة المحكمة على النظام الدولي، تخطط اليوم بكل ما أوتيت من قوة لإحداث فوضى إستراتيجية عارمة تمكنها من الحفاظ على هيمنتها المطلقة لقرن آخر قادم.

لكن الملاحظة المتعمقة تؤكد أن هذا المخطط المحفوف بالمخاطر معرض للفشل الذريع على عكس مساعيها السابقة، خاصة في ضوء تراجع نفوذها الواضح في أوكرانيا، وتلقيها ضربات موجعة في فلسطين، بالرغم من التواطؤ المشين من قبل بعض الدول الهامة في المنطقة. هذا بالإضافة إلى الاحتمالات الكبيرة لفشل محاولاتها الرامية إلى التصعيد تجاه الصين، خاصة في قضية تايوان. والنتيجة الحتمية هي تشتيت إستراتيجي مؤثر على الانفراد الأميركي، وإصابة العالم بصدمات عنيفة، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، لأن الانفراد الأميركي يكاد يتبنى نظرية "ما بعدي إلا الفناء والهلاك!".

رؤية إستراتيجية جديدة

وفي هذا السياق المتأزم، يبدو أن التطورات المدهشة المتوقعة والمشهودة للنظام الدولي تمثل فرصة ذهبية ونادرة لعالم المهمشين والمستضعفين من شعوب العالم الثالث، وفي القلب منه عالمنا العربي المنكوب، وإن جاءت هذه الفرصة على حساب النظام الدولي المتهالك وربما على أنقاضه. فقد بات من المؤكد والجلي أن البنية الراهنة لبلادنا، والتي رسم الاستعمار حدودها ومواردها وقبائلها ومجالات نفوذها، ليست مؤهلة للتطور والنمو أو الخروج من دائرة التبعية والاستغلال.

كما أن شعوبنا تدفع يوميًا من دمائها وأمنها وحريتها ثمنًا باهظًا لاستمرار هذا النظام الدولي الجائر، الذي كلما شعر بفائض قوة، فإنه لا يجد منفذًا لتفريغها سوى في بلادنا وعلى أراضينا وفوق رؤوس مجتمعاتنا المكلومة. هذا بالرغم من أنه المستفيد الأول والأكبر من ثرواتنا ومواردنا النفيسة، وعلى رأسها النفط ومصادر الطاقة الأخرى. والمؤسف أنه عندما تشتكي هذه الشعوب أو تطالب بالإنصاف والعدالة، فإنها تتعرض لأشد أنواع العقاب والظلم.

وفي ضوء هذه الحقائق الموجعة، يجب على المخلصين والغيورين من أبناء جلدتنا أن يستعدوا للتصدي لحالة الانسداد السياسي الخانقة التي يعيشها عالمنا العربي، وذلك من خلال إجراء دراسات متعمقة تسعى جاهدة للكشف عن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء هذا الوضع المتردي، واقتراح الحلول الجذرية الكفيلة بالخروج منه. لأن استمرار هذا الوضع بات يشكل خطرًا داهمًا ومحدقًا، خاصة أنه يعمل بجهود ذاتية محمومة على تدمير كل مقومات الاستقرار في بلادنا، ويجعل مجتمعاتنا غير صالحة للحياة، ويدفع الجميع نحو حافة الهاوية والانتحار الجماعي. ما أحوجنا في هذه الظروف العصيبة إلى رؤية إستراتيجية سليمة، وقبل ذلك إلى قادة يمتلكون البصيرة الثاقبة والحكمة الاستراتيجية!

وفاق وطني

تجدر الإشارة إلى أن أهم الشروط الأساسية للخروج من هذا المأزق التاريخي الراهن، أصبحت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتحقيق وفاق وطني وقومي شامل حول أسس وقواعد البناء الوطني السليم، وحول طبيعة المشروع الصهيوني في المنطقة وسبل التعامل الأمثل معه. كما يجب التوافق على وثائق عمل تؤكد على ضرورة تنسيق وتكامل جهود القوى الحية الفاعلة داخل مجتمعاتنا، وذلك في إطار إعطاء الأولوية القصوى لمكافحة النفوذ الأجنبي المدمر وكل مسبباته، ورفض الاستبداد بكل أشكاله وصوره، والعمل بجد جنبًا إلى جنب وبكافة الوسائل السياسية المشروعة من أجل بناء ديمقراطيات حقيقية تحتضن الجميع وتحترم الحقوق والحريات الأساسية.

وإذا كانت أميركا الجنوبية تقدم اليوم تجاربها الملهمة والمضيئة في هذا المجال، فإن الاستفادة منها تظل واجبة ومُلحة، خاصة وأننا نرى حكوماتها تتخذ مواقف أكثر أهمية وجدية من مواقف حكوماتنا تجاه أهم قضايانا المصيرية، وعلى رأسها قضية فلسطين العادلة، مما يضع منطقتنا بأسرها في حرج بالغ، ويتطلب إعادة النظر في هذا الجزء الهام من العالم، الذي يمكن أن يكون حليفًا إستراتيجيًا قويًا لبلادنا وقضايانا، حال إصلاح أوضاع منطقتنا وتغيير نظرتنا النمطية للعالم.

قد يتوهم البعض أن عدم خروج الشعوب العربية في مظاهرات حاشدة تضامنًا مع غزة الصامدة يعني انصرافًا أو إعراضًا عنها، بينما تؤكد الحقائق الماثلة على الأرض أن تضامنهم اليوم مع القضية الفلسطينية قد تجاوز كل المراحل السابقة من الصراع، وأنها أصبحت في نظرهم قضية العرب والمسلمين الأولى والأكثر أهمية من أي وقت مضى، ولكن القمع الأعمى الممنهج هو الذي يسعى لطمس هذه الحقائق وتشويهها. ومن هنا بدأت تتضح بشكل جلي مظاهر التساند والتكامل والتواطؤ الخبيث بين الداءين العضالين: "النفوذ الأجنبي السافر" و"الاستبداد المحلي المتجذر" ولا يوجد داء ثالث لهما.

فرصة تاريخيّة

لا شك أن القراءة المتأنية والمستفيضة للمخططات الموضوعة لمنطقتنا في ضوء المخطط الصهيوني العام والمرحلة الدقيقة التي بلغها اليوم، ترجح إقدام الإدارة الأميركية المتغطرسة ومن خلفها نتنياهو المهزوم على القيام بعمليات تدميرية خطيرة، ولن يكون تهجير الفلسطينيين قسرًا بعيدًا عن هذه العمليات الإجرامية. علمًا بأن هذا التهجير، في الوقت الذي يحقق فيه أهدافًا إستراتيجية وديمغرافية خبيثة للكيان الصهيوني الغاصب، فإنه يضيف مسمارًا جديدًا في نعش الأمن القومي العربي المتهالك الذي يكاد يتلاشى ويختفي.

في هذا السياق الحرج، جاء "طوفان الأقصى" المبارك، وكذا "العدوان الغاشم على غزة" ليضعا المنطقة أمام وضعية جديدة مغايرة، قادرة على أن تصب في عملية إصلاح إستراتيجية ضرورية وملحة. فليس هناك أدنى شك في أننا بصدد زلزال مدمر هز أركان كل الثوابت الفكرية والسياسية الراسخة، وضرب بقوة المرتكزات الإستراتيجية في العمق، ولم يعد هناك مجال للشك في أننا على أعتاب توابع وتغيرات كبرى.

لكن المتفحص المدقق في أحوال العالم الإسلامي، وبالأخص الجزء العربي منه، يجد أن أهم أسباب الركود العام والتدهور السياسي والاجتماعي المؤسف، إنما يرجع إلى غياب هيكل القيادة الواعي والفاعل والقادر على النهوض بالأمة، وليس ذلك على مستوى الحكومات فحسب، بل إنه يمتد ليشمل حركات الإصلاح والتجديد السياسي والمجتمعي والثقافي. بينما الشعوب تواقة ومنتظرة لمن يقودها نحوFuture أفضل، والظروف المحيطة مهيأة لمن يستوعبها ويحسن استغلالها. فنحن إذن أمام فرصة تاريخية ثمينة وجديدة يجب ألا تضيع هباءً كما ضاعت الفرص السابقة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة